الجوهري اشهر علماء اللغة
صفحة 1 من اصل 1
الجوهري اشهر علماء اللغة
اسمه ومولده
هو إسماعيل بن حمَّاد الجوهري، التركي الأُترَارِيُّ -وأترار: هي مدينة فاراب- اللغويُّ، أحد أركان اللغة، يكنى أبا نصر، وهو ابن أخت أبي إسحاق الفارابي صاحب ديوان الأدب[1]. ولد في فاراب من بلاد الترك[2]، ولكن لم نجد أيًّا من كتب التراجم -على كثرة تلك التي ترجمت له- ذكرت أو عيَّنت تاريخ ولادته، أو ما يشير إلى ذلك.
كان الجوهري يُؤثِر السفر على الوطن، فدخل العراق وسافر إلى أرض الحجاز، ولما قضى وطره من الطواف، عاد راجعًا إلى خراسان، ثم نزل نيسابور، فلم يزل مقيمًا بها على التدريس والتأليف، وتعليم الخط، وكتابة المصاحف والدفاتر، حتى مضى لسبيله[3].
ملامح شخصيته وأخلاقه
كان الجوهري يحب الأسفار، ويؤثر الغربة على الوطن، وهو من أعاجيب الزمان ذكاءً وفطنةً وعلمًا[4]، وكان ممن آتاه الله قوةً وبصيرة، وحسن سريرة وسيرة؛ وقد وصفه الذهبي بقوله: "وكان من أذكياء العالم"[5]، وبمثل هذا أيضًا ابن حجر[6]. وقد برع في علم اللغة والأدب، حتى صار أحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة.
ولم يقف نبوغ الجوهري عند حدِّ علوم اللغة وآدابها فقط، بل إنه تطرق أيضًا إلى فنون وعلوم أخرى، كان أبرزها هنا ما كان من جودة خطِّه وحسنه وجماله، حتى صار في ذلك أيضًا مضرب المثل، وحتى عُدَّ في الخط المنسوب مع ابن مُقْلة (هو محمد بن علي بن حسن ابن مقلة الوزير الشاعر الذي ضُرِب بحسن خطِّه المثل)، وابن البوَّاب (هو علي بن هلال المعروف بابن البواب)، ومهلهل، واليزيدي، فلا يكاد يُفرَّق بينه وبين خط أبي عبد الله ابن مقلة[7].
آراء العلماء فيه
قال عنه ياقوت الحموي: "وهو إمام في علم اللغة والأدب"[8]. وذكره أبو الحسين الباخرزي فقال: "هو صاحب صحاح اللغة، لم يتأخر فيها عن شرط أقرانه، ولا انحدر عن درجة أبناء زمانه"[9].
وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر): "أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري من أعاجيب الدنيا... وهو إمام في علم لغة العرب، وخطه يضرب به المثل في الحسن... وله كتاب الصحاح"[10]. وقال ابن بَرِّي: "الجوهري أَنْحَى اللغويين"[11].
آراء العلماء في مؤلفاته
قال ياقوت الحموي عن كتابه الصحاح في اللغة: "وهذا الكتاب هو الذي بأيدي الناس اليوم، وعليه اعتمادهم، أحسن تصنيفه، وجوَّد تأليفه، وقرَّب متناوله، وأبرَّ في ترتيبه على من تقدَّمه، يدل وضعه على قريحة سالمة، ونفس عالمة؛ فهو أحسن من الجمهرة، وأوقع من تهذيب اللغة، وأقرب متناولاً من مجمل اللغة"[12]. وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوسٍ النيسابوري:
هذا كتابُ الصِّحاح سيِّدُ ما *** صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ
تَشْمَلُ أبوابـهُ وَتَجْمَعُ مـا *** فُرِّق في غيره مـن الكُتُـبِ[13]
شيوخه
دخل الجوهري العراقَ، فقرأ علم العربية على شَيْخَيْ زمانه ونورِ عين أوانه: أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي، وسافر إلى أرض الحجاز، وشافه باللغة العرب العاربة، وقد ذكر هو ذلك في مقدمة كتاب الصحاح من تصنيفه، ثم هو قد اخترق البدو والحضر، وطوَّف بلاد ربيعة ومضر، وأجهد نفسه في الطلب[14].
ولما قضى وطره من الطواف وقطع الآفاق والأخذ عن علماء الشام والعراق، عاد راجعًا إلى خراسان، وتطرَّف الدَّامَغان، فأنزله أبو علي الحسين بن علي -وهو من أعيان الكُتَّاب وأفراد الفضلاء- عنده، وبالغ في إكرام مثواه جهده، وأخذ من أدبه وخطِّه حظَّه، ثم سرحه إلى نيسابور، فلم يزل مقيمًا بها على التدريس والتأليف وتعليم الخط الأنيق، وكتابة المصاحف والدفاتر، حتى مضى لسبيله عن آثار جميلة وأخبار حميدة[15].
وفي نيسابور المغترب بها، أورد الجوهري من نتفه:
وها أنا يونس في بطن حوتٍ *** بنيسابور في ظلل الغمام
فبيتي والفؤادُ ويوم دَجْـنٍ *** ظلامٌ في ظلامٍ في ظـلام[16]
هذا، وقد أخذ الجوهري العربية أيضًا عن خاله إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الفارابي، صاحب (ديوان الأدب)[17].
تلامذته:
من أشهر تلاميذ الجوهري: أبو علي الحسين بن علي[18]، وأبو إسحاق إبراهيم بن صالح الورَّاق[19]، وغيرهما.
الجوهري الشاعر
برع الجوهري في علوم اللغة العربية وآدابها، حتى لكأنه لم يكن هناك فنٌّ منها إلا وأدلى فيه بدلوه؛ وفي نظم الشعر فقد قال فيه الذهبي: "وللجوهريِّ نظمٌ حسن"[20]. وأبلغ الثعالبي بعض الشيء فقال: "وللجوهري شعر العلماء، لا شعر مفلقي الشعراء"[21]. وكان مما أنتجته قريحته في ذلك قوله:
يا ضائعَ العُمر بالأمـاني *** أما ترى رَوْنق الزمـان
فقُم بنا يا أخا الملاهـي *** نخرج إلى نهر بُشْتَقـانِ
كأننا والقصـور فيـها *** بحافتي كَوْثَـر الجنـانِ
والطيرُ فوق الغصون تحكي *** بحسن أصواتها الأغاني
وراسلَ الوُرْقَ عندليـبٌ *** كالزِّير والبَمِّ والمثـاني
فُرْصَتُك اليوم فاغْتنِمْها *** فكلُّ وقتٍ سواه فـانِ[22]
ومن شعره أيضًا:
لو كان لي بدٌّ من الناس *** قطعت حبل الناس بالياس
العزُّ في العزلة لكنَّـه *** لا بدَّ للنـاس من النـاس[23]
وقوله:
رأيت فتى أشقرًا أزرقـًا *** قليل الدمـاغ كثير الفضول
يفضِّلُ من حمقه دائبـًا *** يزيد بن هندٍ على ابن البتول[24]
وقوله أيضًا:
يا صاحب الدَّعوة لا تجزعَنْ*** فكلُّنا أزهـد من كُرْزِ
والماء كالعنبر فـي قُومـسٍ*** من عزِّه يُجعل في الحِرْز
فسقِّنا مـاءً بلا منّـةٍ*** وأنت في حلٍّ مـن الخبـز[25]
منهجه في كتابه الصحاح في اللغة
يعتبر الجوهري في صحاحه هذا مبتكرًا ومطورًا في ترتيب المعاجم العربية، وهو مبدع من أعلام اللغة، وقد أدرك بوعيه ما يقاسيه الباحث في معجم العين، وكذا في جمهرة ابن دريد التي أراد بها صاحبها أن يخفف عن قارئها فأثقل عليه ولم يوفَّق في مرماه، وكذلك الأزهري لم يغيِّر كثيرًا عن نهج من سبقه؛ فكانت مسألة اللغة عالقة بين هذه المعاجم، لا يتمكن القارئ بسبيلٍ سهل إلى إدراك مبتغاه والوصول إلى ضالته.
ومن هنا فقد صبَّ الجوهري جهده في وضع معجمه، بحيث يتمكن المطَّلِع من الوصول إلى ما يريد بما لا ينقص ولا يزيد[26].
واهتم فيه بإيراد كل صحيح من كلام العرب مقتصرًا عليه، يقول السيوطي - بعد أن قام بسرد طائفة من كتب اللغة المشهورة -: "وغالب هذه الكتب لم يلتزم فيها مؤلفوها الصحيحَ، بل جمعوا فيها ما صحَّ وغَيْرَه، وينبهون على ما لم يثبت غالبًا، وأولُ مَن التزمَ الصحيح مقتصرًا عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد الجَوْهَري؛ ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح"[27].
وفي مقدمته قال الجوهري: "قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف اللّه منزلتَها، وجعل عِلْم الدِّين والدنيا مَنُوطًا بمعرفتها، على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه، وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه في ثمانية وعشرين بابًا، وكل باب منها ثمانية وعشرون فصلاً على عدد حروف المعجم وترتيبها، إلا أن يهمل من الأبواب **** من الفصول، بعد تحصيلها بالعراق روايةً، وإتقانها دِرايةً، ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية، ولم آلُ في ذلك نُصْحًا، ولا ادَّخَرتُ وسعًا"[28].
ومن خلال مقدمته تلك فإن الجوهري -كما تقول د. رحاب خضر- يفيد أنه قسَّم كتابه الصحاح إلى ثمانية وعشرين بابًا بحسب أواخر الكلم، ثم نظر كَرَّةً ثانيةً إلى أوائل الكلم فجعل في كل باب فصوله، بعد أن يجرِّد المادة من حروف الزيادة في أوَّلها وآخرها. فمثال المزيد: الأرنب، والأزيب، والأنبوبة؛ لأن الكلمة إذا كان في أولها ألف وبعدها ثلاثة أحرف فأكثر، تكون زائدة لا تُعَدّ من الأصول، فيقال: في أرنب وزنه أفعل، وفي أنبوبة أفعولة، فالحروف المقابلة للفاء والعين واللام هي الأصول، وتأسيسًا على هذا الشرح فإنه يذكر هذه الألفاظ الثلاثة في فصل الراء والزاي والنون من باب الباء.
وكذلك ما بعد الحرف الأول رتبه على ترتيب حروف المعجم، فإذا قال: باب الباء، بدأ فيه بفصل الألف، وجاء فيه بحروف الوسط على الترتيب حتى يصل إلى الألف التي تليها الواو، فيقدِّمها على ما تليها الهاء، وهكذا في كل فصل، يقدِّم فصل الواو من كل باب على فصل الهاء، ويؤخِّر الياء بخلاف الأبواب، فإنه قدم فيها باب الهاء قبل الواو ليجعلها مع الياء في باب واحد، فصارت الحروف التي بوَّب لها سبعة وعشرين، إلا أنه لما كانت الألف على قسمين مهموزة ولينة جعل الأولى في أول الأبواب، وعقد للثانية اللينة غير المنقلبة عن واو أو ياء، فكملت الأبواب ثمانية وعشرين بابًا[29].
وفي وصف عام لكتاب الصحاح، فقد قال أبو زكريا الخطيب التِّبريزي اللغوي: "وكتاب الصِّحاح هذا كتابٌ حسنُ الترتيب، سَهلُ المطلبِ لِما يُراد منه، وقد أتى بأشياءَ حسنة، وتفاسير مشكلات من اللغة، إلاَّ أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ"[30].
وهذا التصحيف ينسبه أبو زكريا السابق إلى الجوهري لا إلى الناسخ، فيقول: "فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنِّف لا من الناسخ؛ لأنَّ الكتاب مبنيٌّ على الحروف. قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهْوٍ يقعُ فيها أو غلطٍ، وقد ردَّ على أبي عبيد في الغريب مواضع كثيرة منه، غير أن القليل من الغَلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفوٌّ عنه"[31].
على أن هناك من ينسب هذا التصحيف إلى عمل آخر، وهذا العمل يكمن في أن الجوهري مات قبل تبييضه، وأن الذي بيَّضه لم يقرأه عليه؛ يقول السيوطي: "وقيل: إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة، وعَرَضَ له وسْوَسَةٌ؛ فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات، وبقي سائر الكتاب مُسَوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض، فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق، فَغَلِطَ فيه في مواضع غلطًا فاحشًا"[32].
وقد حدَّد ياقوت الحمويّ في معجمه الشخصَ الذي صُنِّف له الصِّحاح، فقال: "كان الجوهري قد صنَّف كتاب الصحاح للأستاذ أبي منصور عبد الرحيم بن محمد البيشكي، وسمعه منه إلى باب الضاد المعجمة"[33].
وأيًّا ما كان الأمر، فقد وقف على هذه التصحيفات المحققون وتتبعها العالمون، ومَنْ ذا الذي ما ساء قَطُّ؟! ومن له الحسنى فقط؟! فإنه رحمه الله غلط وأصاب، وأخطأ المرمى وأصاب، كسائر العلماء الذين تقدموه وتأخروا عنه، فإني لا أعلم كتابًا سُلِّم إلى مؤلفه فيه، ولم يتبعه بالتتبع من يليه"[34].
وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد الله بن بَرِّي الحواشيَ على الصِّحاح؛ وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين، قيل: سماها (التنبيه والإفصاح عما وقع من الوهم في كتاب الصحاح) وهو أجود تأليفه، وكان أستاذه علي بن جعفر بن القَطَّاع ابتدأها، وبَنَى ابن بري على ما كتب ابن القطاع، وقد أكملها الشيخ عبد الله بن محمد البسطي. وألَّف أيضًا الإمام رضيّ الدين حسن بن محمد الصَّغَاني (التَّكْمِلَة على الصحاح)، ذَكَرَ فيها ما فاته من اللغة، وهي أكبرُ حجمًا منه. وتناول الصحاح أيضًا الكثير من العلماء الأفاضل بالإصلاح والتحقيق، وتخريج أحاديثه، وعمل اختصارات وترجمات له[35].
مؤلفاته
غير الصحاح الذي يقع في جزأين، والذي لولاه لكفى، فإن للجوهري مؤلفات أخرى مفيدة، فله كتاب في (العروض) وهو كتاب جيد، سمَّاه (عروض الورقة)، وله كتاب المقدمة في النحو[36].
وفاته
في وفاة الجوهري وردت قصة غريبة، إلا أن المصادر التاريخية تكاد تُجمع عليها، وهي أنه صنع جناحين من خشبٍ وربطهما بحبل، ثم انتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد إلى سطحه وقال: أيها الناس، إني عملتُ في الدنيا شيئًا لم أُسْبَق إليه، فسأعمل للآخرة أمرًا لم أسبق إليه. وضمَّ إلى جنبيه مصراعي بابٍ وسَّطَهما بحبلٍ، وصعد مكانًا عاليًا من الجامع، وزعم أنه يطير، فوقع فمات[37]. وكان ذلك -على الأرجح- في سنة ستٍّ وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، رحمه الله تعالى.
هو إسماعيل بن حمَّاد الجوهري، التركي الأُترَارِيُّ -وأترار: هي مدينة فاراب- اللغويُّ، أحد أركان اللغة، يكنى أبا نصر، وهو ابن أخت أبي إسحاق الفارابي صاحب ديوان الأدب[1]. ولد في فاراب من بلاد الترك[2]، ولكن لم نجد أيًّا من كتب التراجم -على كثرة تلك التي ترجمت له- ذكرت أو عيَّنت تاريخ ولادته، أو ما يشير إلى ذلك.
كان الجوهري يُؤثِر السفر على الوطن، فدخل العراق وسافر إلى أرض الحجاز، ولما قضى وطره من الطواف، عاد راجعًا إلى خراسان، ثم نزل نيسابور، فلم يزل مقيمًا بها على التدريس والتأليف، وتعليم الخط، وكتابة المصاحف والدفاتر، حتى مضى لسبيله[3].
ملامح شخصيته وأخلاقه
كان الجوهري يحب الأسفار، ويؤثر الغربة على الوطن، وهو من أعاجيب الزمان ذكاءً وفطنةً وعلمًا[4]، وكان ممن آتاه الله قوةً وبصيرة، وحسن سريرة وسيرة؛ وقد وصفه الذهبي بقوله: "وكان من أذكياء العالم"[5]، وبمثل هذا أيضًا ابن حجر[6]. وقد برع في علم اللغة والأدب، حتى صار أحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة.
ولم يقف نبوغ الجوهري عند حدِّ علوم اللغة وآدابها فقط، بل إنه تطرق أيضًا إلى فنون وعلوم أخرى، كان أبرزها هنا ما كان من جودة خطِّه وحسنه وجماله، حتى صار في ذلك أيضًا مضرب المثل، وحتى عُدَّ في الخط المنسوب مع ابن مُقْلة (هو محمد بن علي بن حسن ابن مقلة الوزير الشاعر الذي ضُرِب بحسن خطِّه المثل)، وابن البوَّاب (هو علي بن هلال المعروف بابن البواب)، ومهلهل، واليزيدي، فلا يكاد يُفرَّق بينه وبين خط أبي عبد الله ابن مقلة[7].
آراء العلماء فيه
قال عنه ياقوت الحموي: "وهو إمام في علم اللغة والأدب"[8]. وذكره أبو الحسين الباخرزي فقال: "هو صاحب صحاح اللغة، لم يتأخر فيها عن شرط أقرانه، ولا انحدر عن درجة أبناء زمانه"[9].
وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر): "أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري من أعاجيب الدنيا... وهو إمام في علم لغة العرب، وخطه يضرب به المثل في الحسن... وله كتاب الصحاح"[10]. وقال ابن بَرِّي: "الجوهري أَنْحَى اللغويين"[11].
آراء العلماء في مؤلفاته
قال ياقوت الحموي عن كتابه الصحاح في اللغة: "وهذا الكتاب هو الذي بأيدي الناس اليوم، وعليه اعتمادهم، أحسن تصنيفه، وجوَّد تأليفه، وقرَّب متناوله، وأبرَّ في ترتيبه على من تقدَّمه، يدل وضعه على قريحة سالمة، ونفس عالمة؛ فهو أحسن من الجمهرة، وأوقع من تهذيب اللغة، وأقرب متناولاً من مجمل اللغة"[12]. وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوسٍ النيسابوري:
هذا كتابُ الصِّحاح سيِّدُ ما *** صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ
تَشْمَلُ أبوابـهُ وَتَجْمَعُ مـا *** فُرِّق في غيره مـن الكُتُـبِ[13]
شيوخه
دخل الجوهري العراقَ، فقرأ علم العربية على شَيْخَيْ زمانه ونورِ عين أوانه: أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي، وسافر إلى أرض الحجاز، وشافه باللغة العرب العاربة، وقد ذكر هو ذلك في مقدمة كتاب الصحاح من تصنيفه، ثم هو قد اخترق البدو والحضر، وطوَّف بلاد ربيعة ومضر، وأجهد نفسه في الطلب[14].
ولما قضى وطره من الطواف وقطع الآفاق والأخذ عن علماء الشام والعراق، عاد راجعًا إلى خراسان، وتطرَّف الدَّامَغان، فأنزله أبو علي الحسين بن علي -وهو من أعيان الكُتَّاب وأفراد الفضلاء- عنده، وبالغ في إكرام مثواه جهده، وأخذ من أدبه وخطِّه حظَّه، ثم سرحه إلى نيسابور، فلم يزل مقيمًا بها على التدريس والتأليف وتعليم الخط الأنيق، وكتابة المصاحف والدفاتر، حتى مضى لسبيله عن آثار جميلة وأخبار حميدة[15].
وفي نيسابور المغترب بها، أورد الجوهري من نتفه:
وها أنا يونس في بطن حوتٍ *** بنيسابور في ظلل الغمام
فبيتي والفؤادُ ويوم دَجْـنٍ *** ظلامٌ في ظلامٍ في ظـلام[16]
هذا، وقد أخذ الجوهري العربية أيضًا عن خاله إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الفارابي، صاحب (ديوان الأدب)[17].
تلامذته:
من أشهر تلاميذ الجوهري: أبو علي الحسين بن علي[18]، وأبو إسحاق إبراهيم بن صالح الورَّاق[19]، وغيرهما.
الجوهري الشاعر
برع الجوهري في علوم اللغة العربية وآدابها، حتى لكأنه لم يكن هناك فنٌّ منها إلا وأدلى فيه بدلوه؛ وفي نظم الشعر فقد قال فيه الذهبي: "وللجوهريِّ نظمٌ حسن"[20]. وأبلغ الثعالبي بعض الشيء فقال: "وللجوهري شعر العلماء، لا شعر مفلقي الشعراء"[21]. وكان مما أنتجته قريحته في ذلك قوله:
يا ضائعَ العُمر بالأمـاني *** أما ترى رَوْنق الزمـان
فقُم بنا يا أخا الملاهـي *** نخرج إلى نهر بُشْتَقـانِ
كأننا والقصـور فيـها *** بحافتي كَوْثَـر الجنـانِ
والطيرُ فوق الغصون تحكي *** بحسن أصواتها الأغاني
وراسلَ الوُرْقَ عندليـبٌ *** كالزِّير والبَمِّ والمثـاني
فُرْصَتُك اليوم فاغْتنِمْها *** فكلُّ وقتٍ سواه فـانِ[22]
ومن شعره أيضًا:
لو كان لي بدٌّ من الناس *** قطعت حبل الناس بالياس
العزُّ في العزلة لكنَّـه *** لا بدَّ للنـاس من النـاس[23]
وقوله:
رأيت فتى أشقرًا أزرقـًا *** قليل الدمـاغ كثير الفضول
يفضِّلُ من حمقه دائبـًا *** يزيد بن هندٍ على ابن البتول[24]
وقوله أيضًا:
يا صاحب الدَّعوة لا تجزعَنْ*** فكلُّنا أزهـد من كُرْزِ
والماء كالعنبر فـي قُومـسٍ*** من عزِّه يُجعل في الحِرْز
فسقِّنا مـاءً بلا منّـةٍ*** وأنت في حلٍّ مـن الخبـز[25]
منهجه في كتابه الصحاح في اللغة
يعتبر الجوهري في صحاحه هذا مبتكرًا ومطورًا في ترتيب المعاجم العربية، وهو مبدع من أعلام اللغة، وقد أدرك بوعيه ما يقاسيه الباحث في معجم العين، وكذا في جمهرة ابن دريد التي أراد بها صاحبها أن يخفف عن قارئها فأثقل عليه ولم يوفَّق في مرماه، وكذلك الأزهري لم يغيِّر كثيرًا عن نهج من سبقه؛ فكانت مسألة اللغة عالقة بين هذه المعاجم، لا يتمكن القارئ بسبيلٍ سهل إلى إدراك مبتغاه والوصول إلى ضالته.
ومن هنا فقد صبَّ الجوهري جهده في وضع معجمه، بحيث يتمكن المطَّلِع من الوصول إلى ما يريد بما لا ينقص ولا يزيد[26].
واهتم فيه بإيراد كل صحيح من كلام العرب مقتصرًا عليه، يقول السيوطي - بعد أن قام بسرد طائفة من كتب اللغة المشهورة -: "وغالب هذه الكتب لم يلتزم فيها مؤلفوها الصحيحَ، بل جمعوا فيها ما صحَّ وغَيْرَه، وينبهون على ما لم يثبت غالبًا، وأولُ مَن التزمَ الصحيح مقتصرًا عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد الجَوْهَري؛ ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح"[27].
وفي مقدمته قال الجوهري: "قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف اللّه منزلتَها، وجعل عِلْم الدِّين والدنيا مَنُوطًا بمعرفتها، على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه، وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه في ثمانية وعشرين بابًا، وكل باب منها ثمانية وعشرون فصلاً على عدد حروف المعجم وترتيبها، إلا أن يهمل من الأبواب **** من الفصول، بعد تحصيلها بالعراق روايةً، وإتقانها دِرايةً، ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية، ولم آلُ في ذلك نُصْحًا، ولا ادَّخَرتُ وسعًا"[28].
ومن خلال مقدمته تلك فإن الجوهري -كما تقول د. رحاب خضر- يفيد أنه قسَّم كتابه الصحاح إلى ثمانية وعشرين بابًا بحسب أواخر الكلم، ثم نظر كَرَّةً ثانيةً إلى أوائل الكلم فجعل في كل باب فصوله، بعد أن يجرِّد المادة من حروف الزيادة في أوَّلها وآخرها. فمثال المزيد: الأرنب، والأزيب، والأنبوبة؛ لأن الكلمة إذا كان في أولها ألف وبعدها ثلاثة أحرف فأكثر، تكون زائدة لا تُعَدّ من الأصول، فيقال: في أرنب وزنه أفعل، وفي أنبوبة أفعولة، فالحروف المقابلة للفاء والعين واللام هي الأصول، وتأسيسًا على هذا الشرح فإنه يذكر هذه الألفاظ الثلاثة في فصل الراء والزاي والنون من باب الباء.
وكذلك ما بعد الحرف الأول رتبه على ترتيب حروف المعجم، فإذا قال: باب الباء، بدأ فيه بفصل الألف، وجاء فيه بحروف الوسط على الترتيب حتى يصل إلى الألف التي تليها الواو، فيقدِّمها على ما تليها الهاء، وهكذا في كل فصل، يقدِّم فصل الواو من كل باب على فصل الهاء، ويؤخِّر الياء بخلاف الأبواب، فإنه قدم فيها باب الهاء قبل الواو ليجعلها مع الياء في باب واحد، فصارت الحروف التي بوَّب لها سبعة وعشرين، إلا أنه لما كانت الألف على قسمين مهموزة ولينة جعل الأولى في أول الأبواب، وعقد للثانية اللينة غير المنقلبة عن واو أو ياء، فكملت الأبواب ثمانية وعشرين بابًا[29].
وفي وصف عام لكتاب الصحاح، فقد قال أبو زكريا الخطيب التِّبريزي اللغوي: "وكتاب الصِّحاح هذا كتابٌ حسنُ الترتيب، سَهلُ المطلبِ لِما يُراد منه، وقد أتى بأشياءَ حسنة، وتفاسير مشكلات من اللغة، إلاَّ أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ"[30].
وهذا التصحيف ينسبه أبو زكريا السابق إلى الجوهري لا إلى الناسخ، فيقول: "فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنِّف لا من الناسخ؛ لأنَّ الكتاب مبنيٌّ على الحروف. قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهْوٍ يقعُ فيها أو غلطٍ، وقد ردَّ على أبي عبيد في الغريب مواضع كثيرة منه، غير أن القليل من الغَلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفوٌّ عنه"[31].
على أن هناك من ينسب هذا التصحيف إلى عمل آخر، وهذا العمل يكمن في أن الجوهري مات قبل تبييضه، وأن الذي بيَّضه لم يقرأه عليه؛ يقول السيوطي: "وقيل: إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة، وعَرَضَ له وسْوَسَةٌ؛ فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات، وبقي سائر الكتاب مُسَوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض، فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق، فَغَلِطَ فيه في مواضع غلطًا فاحشًا"[32].
وقد حدَّد ياقوت الحمويّ في معجمه الشخصَ الذي صُنِّف له الصِّحاح، فقال: "كان الجوهري قد صنَّف كتاب الصحاح للأستاذ أبي منصور عبد الرحيم بن محمد البيشكي، وسمعه منه إلى باب الضاد المعجمة"[33].
وأيًّا ما كان الأمر، فقد وقف على هذه التصحيفات المحققون وتتبعها العالمون، ومَنْ ذا الذي ما ساء قَطُّ؟! ومن له الحسنى فقط؟! فإنه رحمه الله غلط وأصاب، وأخطأ المرمى وأصاب، كسائر العلماء الذين تقدموه وتأخروا عنه، فإني لا أعلم كتابًا سُلِّم إلى مؤلفه فيه، ولم يتبعه بالتتبع من يليه"[34].
وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد الله بن بَرِّي الحواشيَ على الصِّحاح؛ وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين، قيل: سماها (التنبيه والإفصاح عما وقع من الوهم في كتاب الصحاح) وهو أجود تأليفه، وكان أستاذه علي بن جعفر بن القَطَّاع ابتدأها، وبَنَى ابن بري على ما كتب ابن القطاع، وقد أكملها الشيخ عبد الله بن محمد البسطي. وألَّف أيضًا الإمام رضيّ الدين حسن بن محمد الصَّغَاني (التَّكْمِلَة على الصحاح)، ذَكَرَ فيها ما فاته من اللغة، وهي أكبرُ حجمًا منه. وتناول الصحاح أيضًا الكثير من العلماء الأفاضل بالإصلاح والتحقيق، وتخريج أحاديثه، وعمل اختصارات وترجمات له[35].
مؤلفاته
غير الصحاح الذي يقع في جزأين، والذي لولاه لكفى، فإن للجوهري مؤلفات أخرى مفيدة، فله كتاب في (العروض) وهو كتاب جيد، سمَّاه (عروض الورقة)، وله كتاب المقدمة في النحو[36].
وفاته
في وفاة الجوهري وردت قصة غريبة، إلا أن المصادر التاريخية تكاد تُجمع عليها، وهي أنه صنع جناحين من خشبٍ وربطهما بحبل، ثم انتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد إلى سطحه وقال: أيها الناس، إني عملتُ في الدنيا شيئًا لم أُسْبَق إليه، فسأعمل للآخرة أمرًا لم أسبق إليه. وضمَّ إلى جنبيه مصراعي بابٍ وسَّطَهما بحبلٍ، وصعد مكانًا عاليًا من الجامع، وزعم أنه يطير، فوقع فمات[37]. وكان ذلك -على الأرجح- في سنة ستٍّ وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، رحمه الله تعالى.
????- زائر
مواضيع مماثلة
» ابن جني من اشهر علماء اللغة
» الفيروزآبادي اشهر علماء اللغة
» ابن فارس اشهر علماء اللغة
» ابن منظور اشهر علماء اللغة
» الخليل بن احمد اشهر علماء اللغة
» الفيروزآبادي اشهر علماء اللغة
» ابن فارس اشهر علماء اللغة
» ابن منظور اشهر علماء اللغة
» الخليل بن احمد اشهر علماء اللغة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت سبتمبر 15, 2012 7:32 am من طرف ابو ابراهيم426
» أسئلة اثرائية لدرس " تطابق المثلثات "
الثلاثاء مارس 20, 2012 5:32 pm من طرف حاتم الخلايلة
» تحضير رئيسي تربية اسلامية للصف الخامس
السبت مارس 03, 2012 1:56 pm من طرف االهام فلسطين
» التدخين عند المراهقين
الأربعاء فبراير 01, 2012 4:28 pm من طرف حاتم ابو هاشم
» الأذان والإقامة
الإثنين يناير 30, 2012 6:13 pm من طرف أيمن الزعارير
» سلوك الغضب عند الأطفال
الأحد يناير 29, 2012 7:20 pm من طرف حاتم ابو هاشم
» كيف تجعل الناس ينصتون إليك ؟
الأحد يناير 29, 2012 7:04 pm من طرف حاتم ابو هاشم
» المكافأة المدروسةوأثرهاعلى الطفل
الأحد يناير 29, 2012 6:55 pm من طرف حاتم ابو هاشم
» أربعة أخطاء في تربية الأبناء
الأحد يناير 29, 2012 6:47 pm من طرف حاتم ابو هاشم